مخاطر الكتابة باللَّهجات العاميَّة على اللِّسان الفصيح

You are currently viewing مخاطر الكتابة باللَّهجات العاميَّة على اللِّسان الفصيح


سببان وراء رفضي لفكرة كتابة اللّسان العربيّ باللّهجات العاميّة:
السّبب الأوّل: سببٌ علميٌّ متعلّق بعلم اللّسانيّات. إذ من المعلوم بأنّ مهارات اللّغة عند البشر هي أربع باتّفاق: مهارة الاستماع، ومهارة الكلام، ومهارة القراءة ومهارة الكتابة.
ومن المعلوم أنّ اللّغة مشترك ثقافيّ وحضاريّ وفكريّ بين مجموعة من البشر، ومن المسلّم به في علم اللّسانيّات أيضاً أنّ اللّغة هي المعلومة الأولى التي تشكّل فكر الإنسان في علاقة جدليّة معقّدة جدّا. واللّغة، فوق ذلك، عنوان السّيادة للأمم ورابطة الوحدة بين الشّعوب، وبها تهيمن القوى العظمى على ضعفاء العقول.
وهذه المنطلقات العلميّة يتمّ النّيلُ منها وتصاب بالانخرام في حالة التخلّي عن اللّغة المشتركة الفصيحة، ومثال استخدام العاميّات المحلّية: _ اللّهجات العربيّة التي تعدّ بالعشرات، وتكاد كلّ مدينة أن تتّخذ لها لهجة خاصّة، فحين تتخاطب هذه الشّعوب باللّهجات المختلفة، تستخدم مهارتين فقط: هي مهارة الاستماع، ومهارة الكلام. وحينئذ، فاللهجات المحلّية لم توجد من أجل أن تكتب، بل لكي تستخدم نصف المهارات فقط؛ وهي الاستماع والكلام. وحين تكتب اللّهجات وتنتشر، تستهلك المهارات كلّها، أي: تستوفي الاستماع والكلام والقراءة والكتابة. علما أنّ الكتابة تختزل اللّغة كلّها تقريبا؛ لأنّ الذي يكتب يستخدم جميع المهارات المُشار إليها أعلاه. فإذا فعلت اللهجات ذلك، ضربت اللسان الأمّ في الصّميم، وصارت العاميات معاول لهدم ما تركه لنا الأوّلون مع إضعاف الأمل في مستقبل مشترك.
وبهذا، فإنَّ كتابة العاميّات المحلّية، وإن كان عملا في ظاهره يبدو “بريئا وتلقائيّا”، إلا أنه يؤدّي عند انتشاره واستحكامه إلى ضرب اللغة الأمّ الفصيحة في مقتل، ويزاحمها ويبعدها عن الحياة، فيؤدّي ذلك إلى مزيد التّشرذم والانهيار الثّقافي والفكريّ في الثقافة الواحدة، مع قطع جذور التّواصل مع التراث ومع العالم المعاصر بلغة واحدة مشتركة.
وفي هذا المقام، أستثنى ممّا ذكرتُ أعلاه كتابة التّراث اللاماديّ للشّعوب وهو التّراث الذي تنتجه المجتمعات بلهجاتها مثل الأغاني والقصائد والأهازيج والقصص الأدبية، والتي تكتب للحفاظ على ذلك التراث من التلف، والمعنيون به هم أهل البحوث الاجتماعية والتراثيّة خاصّة. كما أستثني جهود التقريب بين الفصحى والعاميّة والتي تهدف إلى تيسير اللغة عن طريق استخدام الشائع الفصيح في العاميّة.

السّببُ الثّاني: إجرائيٌّ نفعيٌّ، وذلك لأنّ اللغة العربيّة هي ثالث لغة عالميّة من حيث الانتشار، وبها منطوق الوحي القرآني وتراث جميع المسلمين، وهي لغة تطوّرت كثيرا وكُتب بها أكبر محافيظ الإنسانية، وبها مكتوب خزائن الدنيا من المخطوطات، فمن غير المناسب أخلاقيا، ومن العبث ثقافيًّا ومن الغبن والحمق سياسيًّا أن يأتي ناطق بالعربيّة، يترك كلّ هذا الإنجاز الذي لا يتحقّق عند الشّعوب إلا بعد جهود متراكمة لمئات السّنين، ويتخلّى عن لغة في جمال العربيّة الفصيحة لفائدة لهجات غير مشتركة، فلما أجبر في مجموعة متعددة اللهجات أن أقرأ الكلام بلهجة دون لهجة؟ ومن يقوم بروية الكتابة باللهجات فقد يكون عن حسن نية لكنه في واقع الأمر يهدم ما يؤسّسه المدرّسون في المدارس، ويطمس ما يبنيه المصلحون في المجتمع، ويؤخّر قطار النهوض الجماعي، ويعمل ضدّ توحيد الأمّة، ويتسبّب في نشر الجهل عبر قطع الصِّلة باللغة المشتركة المكتوب بها كلّ شيء.
وإنّني لأحبّذ أن يكتب العربيّ فقرة بالفصيح فيها عشرات الأخطاء النحوية على أن يكتب عاميّة تؤدّي به إلى ما ذكر وما لم يذكر من مهالك. وقد يقول قائل: إنّني لا أحسن الكتابة بالعربيّة الفصيحة، وأجيب: من قرأ في حياته مائة كتاب بلغة من اللغات، لن يستطيع الزعم أنه لا يحسن الكتابة بها. وهنا مربط الفرس: اقرأ… ستكتب بإذن الله!
ويزداد الأمر حيرة حين يفعل هذا مدرسون للغة العربية للناطقين بغيرها! أي: نفعل عمليا عكس ما نعلمه للطلاب!
ولله الأمر من قبل ومن بعد!

✍🏽 #بشير_العبيدي | محرم 1445 | كَلِمةٌ تَدْفَعُ ألَمًا وكَلِمةٌ تَصْنَعُ أمَلًا |

كم كان مفيدا لك هذا المنشور؟

أنقر على النجمة لوضع التقييم

معدل التقييم 4 / 5. عدد التقييمات: 3

لا توجد تقييمات! كن أول من يعطي تقييمه

مرحبا بكم 👋

سعداء بالتواصل معكم!

لكي تصلكم نشرتنا بانتظام، وفيها جديد منصة المتمّم، يمكنكم الاشتراك بإدراج بريدكم الإلكتروني. شكرًا على اهتمامكم.

(تم تفعيل هذه الخدمة قبل سويعات، إن لم تعمل يرجى المحاولة مجددا بعد 24 ساعة)

We don’t spam! Read our privacy policy for more info

اترك تعليقاً