خلال العصر الرقمي الذي نعيشه منذ تسعينيات القرن الميلادي المنصرم، تحولّ العالم إلى حالة غير مسبوقة من التشبيك البيني، حتى لا يكاد يوجد شيء في حياتنا المعاصرة إلا وله رابط تقني مع شيء آخر: من المنزل إلى العمل والسفر والترفيه وغير ذلك. حتى المزارع الذي يحرث أرضه في أقصى نقطة من الأرض بات محتاجًا إلى ربط التقانة بالمنظومة المعلوماتية الأضخم في تاريخ البشر. ولهذا السبب، أصبح دمج التقانة في التعليم أكثر أهمية من أي وقت مضى؛ وصار للمعلم الدور المحوري في تأطير الناشئين ونقل المعرفة والمهارات داخل المجتمعات لأجل تأمين استمرارية المجتمعات البشرية. لكن المفارقة تكمن في الاختلال بين الدور المتعاظم والتحدي الذي يبقى قائمًا: وهو النقص الواضح لدى المعلمين في المهارات التقنية المطبقة في التعليم. وإن معالجة هذه المسألة تقتضي فهما دقيقا للمشكلات، ونهجًا متعدد الأبعاد للتعرف على الحلول الفعّالة لتنفيذها.
من مظاهر التعثر في علاقة المعلمين بالوسائط التقنية
ثمة ما يشبه الشلل في العلاقة بين عدد كبير من المعلمين والوسائل التقنية التعليمية. ومن أول مظاهر الضعف التقني ما يلاحظ بمناسبة التواصل بين المعلمين أنفسهم، أو بينهم وبين غيرهم من المستخدمين. ومن خلال تجاربي الشخصية فقد لاحظت – على سبيل الذكر لا الحصر – مشكلات تقنية متكررة عند استلام بريد إلكتروني لا يستجيب لأدنى الشروط التقنية والمهنية، مما يجعل الرسالة رديئة تقنيا، وغير قابلة لإيصال الفكرة لكثرة الأخطاء التنسيقية للنص، واختلال التراكيب اللغوية، مع أن جميع التطبيقات تتيح المصحح اللغوي الآلي، ولا ينتبه المعلمون لذلك وربما لا يبالون. كما تظهر المشكلة التقنية بمناسبة تحرير بيانات السيرة، إذ يقدم المعلمون أنفسهم في قالب يشير بوضوح لضعف تقني فادح، وقد يعتذرون؛ لأنهم لا يعرفون استخدام الأجهزة بالشكل المناسب لتنسيق نصوصهم. ويظهر الضعف بشكل واضح في مهارة معالجة النصوص والرسوم والصور والمرئيات والمسموعات على الشبكات. وينعكس الضعف التقني على مهارات الأداء داخل الفصول. ويبرز هذا العجز التقني جليا أمام التلاميذ أثناء استخدام الأجهزة الحاسوبية وأجهزة العرض والتسميع، مما يضطر المعلم إلى الاستنجاد بتلاميذه في الفصل، أو بالزملاء والتقنيين لحل مشكلة تقنية عارضة بسيطة قد لا تتعدى ربط سلك بمنفذ، وهو ما قد يسبب ضياعا من وقت الحصص التعليمية، كما يسبب عائقا للتواصل مع التلاميذ الذين يرون معلميهم غير قادرين على أشياء باتت لعبة في يد الأطفال، فضلا عن ضياع الوقت التعليمي بسبب غياب المهارات التقنية التي جعلت بالأساس لتسريع العمليات التعليمية، وغير ذلك من المشكلات.
ومن المظاهر الأخرى للضعف التقني لدى عدد كبير من المعلمين، عدم القدرة على استخدام الأدوات التقنية المتقدمة بشكل فعال في التدريس. على سبيل المثال، قد يجد المعلمون صعوبة في استخدام البرامج الحديثة لإعداد العروض التقديمية أو تصميم المواد التعليمية التفاعلية. كما قد يفتقرون إلى المهارات اللازمة لتنظيم الفصول الافتراضية وإدارتها بشكل فعّال، مما يؤثر سلبًا على تجربة التعلم للطلاب. بالإضافة إلى ذلك، قد يواجه المعلمون صعوبة في تحليل البيانات والاستفادة من التحليلات التقنية لتحسين عملية التدريس وتحقيق نتائج أفضل. وتوجد اليوم أدوات تقنية يمكنها إسناد تقييم آلي للأعمال، بعضها مرتبط بالذكاء التوليدي الذي يجعل من مراجعة أعمال المتعلمين أمرًا على غاية من السرعة والدقة، فيوفر كل ذلك وقت المعلمين. هذه النقاط تسلط الضوء على أهمية تطوير مهارات التقانة التعليمية لدى المعلمين وتوفير الدعم اللازم لهم للتأقلم مع التطورات التكنولوجية في مجال التعليم.
أسباب اختلال العلاقة بين المعلمين والمهارات التقنية
الأمية الرقمية: إن أحد الأسباب الرئيسة وراء النقص في المهارات التقنية بين المعلمين، ما يصطلح على تسميته بالأمية الرقمية، حيث يفتقر كثير من المعلمين إلى الفهم الأساس لكيفية التنقل بفعالية وربط الأجهزة والتطبيقات، مما يعيق قدرتهم على استغلال التقانة لأغراض تعليمية. بالإضافة إلى ذلك، نلاحظ النقص الكبير في التركيز على تدريبات رفع الأمية الرقمية داخل المؤسسات التعليمية، مما يترك المعلمين غير مجهزين للتكيف مع التطورات التقانية المتلاحقة.
وعلاوة على ذلك، يعطي العديد من المعلمين الأولوية للأساليب التقليدية في التدريس على حساب دمج التقانة في الفصل الدراسي. ويتعود العديد منهم على الممارسات التدريسية التقليدية ويكونون متردّدين في تبنّي الأدوات التقانية الجديدة، وبعضهم يعزي هذا الأمر إلى كونه “تعلّم في ماضي الأيام بالطريقة التقليدية التي أثبتت جدواها”، وما ذلك إلا نمط من أنماط المقاومة للتغيير وموقف يعزّز من دورة التخلف التقاني في التعليم، وهو مسلك “آبائي” (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ)، يدل على رسوخ القناعات الذاتية التي تعيق استيعاب المتغيرات.
ويزيد انعدام التطوير المهني أو نقصه الشديد من المشكلة. إذ يحتاج المعلمون إلى تدريب ودعم مستمريْن لتعزيز مهاراتهم الرقمية والبقاء على اطلاع بالتقانات الجديدة الفعالة في مجال التعليم. ولا شك أنه من دون مؤهلات مناسبة في هذا المجال، قد يصعب على المعلمين دمج التقانة بشكل فعال في ممارساتهم التدريسية داخل الفصول وفي تواصلهم اليومي مع المتعلمين والأولياء والهياكل التعليمية.
وتؤدي القيود المالية أيضًا دورًا كبيرًا في عرقلة التقدم التقاني بين المعلمين. إذ تعيق الموارد المحدودة قدرة المدارس على توفير الوصول إلى التقانة التعليمية وبرامج التدريب، مما يزيد من الفجوة الرقمية في التعليم.
كما يوجد نقص في فهم “كيف يعلّم المعلّمون أنفسهم؟”، خصوصا لمن “لا يدري ولا يدري أنه لا يدري”، مع وجود كم هائل من المحتويات التدريبية المتاحة في الشابكة لكن المعلّم لا يدري كيف يمكنه تطوير مهاراته بنفسه. وغالبًا ما تفشل مبادرات التطوير المهني في تلبية الاحتياجات والتفضيلات التعلمية الفردية، مما يؤدي إلى فشل البرامج التدريبية.
هل يمكن إصلاح الخلل بين المعلم والتقانة التعليمية؟
إن الوعي بالمشكلة يمثل جزءا مهما من الإصلاح، ولمعالجة هذه التحديات وتصحيح العلاقة بين المعلمين ومهارات استخدام الوسائط التقنية، يمكن اتخاذ خطوات عدة نذكر منها:
أولاً: برنامج محو الأمية الرقمية. على المؤسسات التعليمية إعطاء أولوية لتدريب يستهدف محو الأمية الرقمية للمعلمين، وتوفير برامج شاملة تغطي المفاهيم التقانية الأساس والتطبيقات العملية التي لها علاقة مباشرة ويومية بالممارسات التدريسية داخل الفصل، على أن يكون محتوى التدريب في ثلثي الوقت مخصصا للمهام الشخصية للمعلم.
ثانيًا: وعي المعلمين بدورهم الجديد. يجب أن يكون هناك تحول في التفكير بين المعلمين، مع التأكيد على أهمية دمج التقانة في ممارسات التدريس؛ لأن ذلك في صالح المعلمين أنفسهم، حيث يوفر لهم الوقت ويسهل عملية التواصل وإعادة استخدام البيانات وحفظ التجارب التعليمية الناجعة وإعادة استخدامها. كما ينبغي أن تركز مبادرات التطوير المهني على تمكين المعلمين لاعتماد الابتكار واكتشاف طرق إبداعية لاستخدام التقانة التعليمية في الفصل الدراسي.
وعلى المدارس أن تعي أنها الرابح الأول من تخصيص موارد كافية لضمان الوصول إلى تقانة التعليم والدعم المستمر للمعلمين، والاستثمار في البنية التحتية وبرامج التدريب فيما هو ضروري لتقليل الفجوة التقانية وتعزيز ثقافة الابتكار الرقمي في التعليم.
وهذا لا يعفي المعلمين من دورهم الشخصي الكبير، إذ يمكن أن تعزز خطط التطوير المهني الشخصية المخصصة للاحتياجات التعليمية الفردية كفاءة البرامج التدريبية الرسمية المعتمدة. وهذا يمكن أن يتعزز عن طريق الاعتراف بالأساليب والتفضيلات التعلمية الشخصية المتنوعة للمعلمين، ويمكن للمؤسسات التعليمية ضمان الدعم المادي والمعنوي لكل المعلمين الذين يقومون بمبادرات نوعية للتطوير المهني الذي له الصلة المباشرة والفعالية المبررة والتأثير الواضح على نتائج التعليم.
في الختام، يتطلب إصلاح العلاقة بين المعلمين ومهارات استخدام الوسائط التقنية جهدًا مشتركًا لمعالجة الأسباب الجذرية للنقص التقني وتنفيذ الحلول المستهدفة. من خلال إعطاء الأولوية لمحو الأمية الرقمية وتعزيز ثقافة الابتكار، وتوفير الموارد والدعم الكافي، ومن ثَمَّ تعزيز دور المعلمين لاعتماد التقانة التعليمية بجهود التعلم الذاتي وتحويل التعليم والتعلم للأفضل.
بقلم | بشير العبيدي
منصة المتمم | فريق النشر
بوركت أناملك أستاذ بشير على المقال المهم، فعلا هو يصف واقع الكثير من المعلمين للأسف. أرى أن هناك مشكلة أخرى تعيق المعلم في مجال التقانة التعليمية، وهي أنه في بعض البيئات التعليمية قد يكون الوصول إلى التكنولوجيا محدودا أو ضعيفا، أو غير متاح بالكامل.
كما أن عالم التكنولوجيا في تجديد وتطور مستمر، مما قد يجعل المعلم يواجه صعوبة في متابعة تحديثات التقنيات واستخدامها في التعليم، فكيف يتجاوز ذلك؟
وأيضا ذكرتم في المقالة أن المعلمين قد يواجهون صعوبة في تحليل البيانات والاستفادة من التحليلات التقنية لتحسين عملية التعليم، فماهو السبيل لاكتساب هذه المهارة؟