هذا السّؤال وردني عبر مواقع التواصل، من شابّ عربيّ حريص على سلامة لسانه، كتاب قائلا: (… في محاولة منّي لمزيد التمكّن من اللغة العربيّة – بعد فقدان الأمل في تعلّمها عن طريق النّحو والقواعد وغيرها – هل يوجد كتب تُنشر #مشكولة؟ أحتاج في حياتي المهنيّة لنطق #العربيّة صحيحة لا لحن فيها، ولكن للأسف أعاني بعض المشاكل في تشوّه السّليقة. وأستمع لمقاطع فيديو بالعربية، وأريد أن أقرأ نصوصاً عربيّة مشكولة، كي أتجاوز أنّني أنطقها في ذهني بطريقة قد تكون خاطئة).
ونظرا لارتباط هذا السؤال بسياقات متداخلة، أستسمح القارئ في تناول هذا الموضوع من جوانب عدة، سعيا لإبراز مختلف الأوجه التي لها علاقة مباشرة أو غير مباشرة بهذا السؤال الكريم.
📌 اللغة واللسان
اللغة البشرية ظاهرة إنسانية عقلية متفرّدة، وبها تميّز الإنسان عن سائر الكائنات التي تكتفي بأصوات محددة أو إشارات أخرى غير الأصوات، تعبّر بها عن غرائزها أو أحوالها. واللغة تتطور وتتبدل ويأتي عليها ما يأتي على الكائن الحي من الزيادة والنقصان، حتى سمّوها “لغات حية”، وتتلاشى وتفنى حتى سمّوا بعضها “لغات ميّتة”.
ويوجد فرق بين #اللسان واللغة. فاللغة ظاهرة إنسانية. واللسان خاص بقوم، ويجمع اللسان عددا من اللهجات والمستويات اللغوية المختلفة، والتفريعات للغة الواحدة. ولذلك من الأدق أن نتحدث عن “لسان عربي” أو “لسان صيني” وليس لغة عربية أو لغة صينية. وهذا مهم جدا، لأنه في علاقة مع سؤال الشاب العربي الذي يجد صعوبة – وهو عربي اللسان – أن يجيد المستوى القياسي الفصيح من اللغة. فاللسان ليس شيئا واحدا في كل العصور، ولو كان الناس الذين عاشوا زمن الجاهلية توفر لهم ما توفر لنا من وسائل التسجيل والمحافيظ، واستمعنا لكلامهم اليوم لوجدنا فروقا أسلوبية ولكنية كبيرة بين كل عصر وعصر، بل في العصر نفسه، وكل مصر ومصر بل في المصر نفسه. غير أن اللسان العربي كما نعرفه اليوم ميزته العالمية هو حفاظه على التراكيب والأوزان والأصوات، وإن تطورت الكلمات والأساليب والعبارات واللكنات واللهجات.
📌 اللسان واللهجات
وتقترب وتبتعد #اللهجات واللكنات عن اللسان الأم المشترك القياسي (الفصيح) لأسباب تاريخية وجغرافية واجتماعية وغيرها، لا يتسع المجال لشرحها في مقالة ببضع فقرات. لكن أهم ما ينبغي أن يشار إليه أن اللهجات كانت أصل اللغة الفصيحة، والفصيحة أم اللهجات التي ظلت على مر الزمن دون الفصيح من جهة الثراء والجمال والقوة والبلاغة، بفضل القرآن الكريم وعالمية اللغة العربية وتطورها وحيويتها. ويمكن لكل عربي اليوم أن يتحقق من ذلك بتمرين بسيط: هل توجد في لهجاتهم كلمات لتسمية أصابع اليد مثلا؟ وتسمية أجزاء اليد؟ وتسمية مواضع في الوجه؟ والجسد عموما؟ فلو أخذ كل عربي ينطق بلهجة من اللهجات العربية يصف جسده بلهجته سيكتشف سريعا بأن اللهجات غير قادرة أبدا من دون العودة لأمها الفصحى أن تجد كلمات لوصف أعضاء الجسد من الرأس إلى الرجل. فإذا كانت اللهجة غير مهيأة لذلك، فهي أقل استعدادا أن تصف المفاهيم والعلوم والمعارف.
📌 اللسان والتعليم
اللسان العربي القياسي #الفصيح يتمكن منه الناس بالتعليم وليس بالسليقة كما كان الأمر في القرون الأولى. وهذا ما لاحظه عبد الرحمن ابن خلدون في كتاب المقدمة حين أشار أن تعليم اللسان صار صناعة ولم يعد سليقة. وهذا معناه: من الصعب على من لم يتمدرس أن يجيد اللسان العربي القياسي، لأنه يحتاج أن يعرف البناء المنطقي للغة، ويدرك أثره على الأصوات، لكي يعبّر بشكل سليم دونما حاجة لوضع علامات الضبط.
وهذا ضرب مما أشار إليه بعض اللسانيين من ظاهرة لغوية اسمها العسر اللغوي. والتّوصيف الذي انطلق منه السّائل الكريم، هو توصيف صحيح، لأنّه يعاني فعلا من آثار ظاهرة انتشرت في جغرافيا اللسان العربي هي تشوّه السّليقة مشرقا ومغربا ومهجرا في القرون الأخيرة.
📌 من أسباب الضعف في إجادة اللسان العربي
يعود ذلك خاصة لسببين رئيسيّين:
❶ أوّلا غياب سياسة #لغويّة فعّالة وجادّة يقوم عليها مسؤولون يحملون القضيّة اللّغويّة باعتبارها مسألة سيادة، وينفذها معلمون ومدرّسون مؤهّلون ومؤمنون برسالة مشتركة ومشروع عيش مشترك ضمن لغة مشتركة. فمن لا لغة له، لا سيادة له. غياب هذا البعد جعل النّتيجة ماثلة أمامنا: الإحساس العام بالدونية اللغوية، وهيمنة اللغات الأجنبية. إذ يقضّي هذا الشابّ العربي عشرين سنة في نظام تعليميّ عربيّ، ويتخرّج للحياة المهنيّة فيجد نفسه يعود إلى القواعد النحويّة طمعا في تحسين النّطق والإعراب الصّحيح! ولكن هيهات!
❷ ثانيا: قلة التعرّض اللّغوي بعد استفحال الإعلام المبتذل النّاطق باللّهجات المحلّية المخلوطة بالرطانة، وهي إقحام مفردات وتراكيب أجنبية في اللهجات دون موجب، وهذا مما يزاحم ويزيح الفصحى – شيئا فشيئا – من المسموعات والمرئيات والشّارع والإدارة، واليوم لا يكاد الناطق بالعربية يسمع الفصحى إلا في خطب الجمعة المكرّرة، وأغلبها من التراثيات المكتوبة بأساليب عفا عنها الزمن، أو في النشرات المتلفزة الناقلة لأخبار المصائب والحروب والخراب، خلا ذلك، تمّ استبعاد الفصحى رويداً رويداً من حياة الناس واستخفّ الإعلام الهابط بمن يتكلّمها، حتى كادت الفصحى تغدو غريبة في أهلها. وتشجع عديد المراكز المشبوهة التخلي عن الفصحى والكتابة باللهجات العامية، وهذا يدل على عمل مقصود به الهدم. وبقدر متابعة الإنسان لمحتويات بلغة راقية، يكون ذلك ذا أثر مباشر على المتابع، وللرديء مفعوله العكسي أيضا.
📌 ما الوسائل المساعدة على إجادة اللسان العربي الفصيح؟
توجد مقترحات عدة لتصحيح اللسان والوصول إلى مرتبة التعبير السليم بلسان عربي مشترك عالمي، الذي هو رابع لسان في العالم، وضمن اللغات الست المعتمدة رسميا في منظمة الأمم المتحدة، وهو اللسان المفضل لدى عموم المسلمين في العالم:
نحن نعيش في زمن #التنوع_اللغوي والثقافي: العربية اليوم -مثلها مثل سائر لغات العالم- تعيش عصرا جديدا ميزته التنوع اللغوي المتجاور، خصوصا بعد الانتشار الكوني لوسائل الإعلام والاتصال. هذا التنوع اللغوي المتجاور معناه أن اللسان العربي لم يعد وحده في الساحة المحلية والعالمية، بل تنافسه لغات عالمية كبرى، ولغات إقليمية وثقافية محلية ودخيلة، والصراع على السيطرة على العقول على أشده في هذا المجال، لأن اللغة التي تهيمن ستصنع وعيا مواليا لها، ومن خلال ولاء الوعي، تأتي كل أنواع السيطرة بعد ذلكـ، ومتى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا. فاللغة هي مقاومة. ومن هنا كان الحفاظ على اللسان العربي هو حفاظ على التنوع الثقافي ورفض الهيمنة اللغوية السائدة التي تؤدي إلى الانتحار الثقافي الجماعي، والحفاظ على اللغة حق من حقوق الإنسان، وهو واجب فردي وجماعي حين نرى خطورة التنميط وإذابة الخصوصيات الثقافية للشعوب والأمم. ورفض التنميط يقتضي عدم إجبار الناس على قتل لغاتهم الخاصة، ولم تتعرض العربية لنكسة مثلما تعرضت لنكسة في زماننا حين جعلها بعض المفكرين والساسة الأغبياء لغة أيديولوجيا قومية أرادوا فرضها على الناس بالعسف لمجرد التوظيف السياسي. فالتعدد اللغوي آية من آيات الله.
رفع درجة التعرّض اللّغوي: من المهم ترك متابعة الإعلام المقدّم باللهجات العامية المخلوطة بلغات شتى، أو التقليل منها لأقل وقت ممكن، لأنّ ذلك الخلط والخبط يسبّب الرّداءة اللغوية ويؤثر سلبيا على منطقية التفكير، كون اللهجات لا تنضبط بنظام تركيبي واحد ولا تراعي الطبيعة الإعرابية للغة العربية (أي نطق أواخر الكلمات وفق القواعد اللغوية). وتوجد قنوات تحترم اللّسان العربي أبرزها قناة الجزيرة، يمكن متابعة برامجها الوثائقية والإخبارية مثلا. وكلّما زاد الإنسان من عدد الساعات التي ينغمس فيها في الاستماع للسان ما، تعوّد السّماع على نمطية تلك اللغة وفق قواعدها الأساسية، حتى من دون معرفة تلكم القواعد بالضرورة، والتكرار كفيل بتصحيح النطق، فالاستماع أبو الملكات ولا يمكن إنتاج لغة منطوقة أو مكتوبة إلا بعد أن يكون الاستغراق في الاستماع قد أخذ حظه.
مضاعفة جهود القراءة الجهريّة من الكتب باللسان السليم في تراكيبه السائد في عصرنا أو ما يسمى بالعربية المعاصرة، وهو ما نسمه “القواعد الوظيفية أو النحو الوظيفي”، بإعراب أواخر الكلمات، ثم تصحيح ذلك ومعرفة مواطن الخطأ عبر استكناه المنطق اللّغوي ذاته، أي منطق اللّغة في تعليل الإعراب، وفهم أسبابه، بدل حفظ القواعد الذي لا يساعد كثيرا في هذا الباب. ومثال ذلك : قول القائل: الرّجلُ مجتهدٌ. فالرّجل هو المبتدأ. والمبتدأ مرفوع. وهنا علامة الرفع الضمّة الظّاهرة. وسبب رفع الفاعل: إعلاء شأن الفاعل وتبجيله على المفعول به، فكل شيء له قيمة يرفع على الرؤوس. ثم يقول المتدرّبُ: الرّجلان مجتهدان. وههنا يكون الرّفع خلاف الأولى بالألف والنون للمثنّى. ثم يطبّق الجملة مع المذكّر السّالم والمؤنّث السّالم وجمع التّكسير، فسيدرك بسرعة التّغييرات الطارئة على أواخر الكلمات، ويستوعب القاعدة منطقيّا بدل حفظ القواعد دون فهم وظيفتها ودلالتها لتجريبها واقعيا للتعبير عن أغراضه. فاللغة #أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم كما هو تعريف علماء اللغة. وهذا شبيه تقريبا بما يسمّى بالنّحو الوظيفيّ. وفي العربية قواعد مفتاحية لو تعلم الإنسان دلالتها سهلت عليه فهم بقية القواعد، كأن يعرف نظام الاسم والفعل والأداة، وطبيعة العلاقة الإسنادية بين هذا الثالوث في السياقات التعبيرية المختلفة.
استخدام (تعليمية الخطأ)، وصورتها: التوقّف تماما عن اعتبار الخطأ سيّئا، والعمل في مجموعة مصغّرة على التدرّب الذاتي، وتصوير مرئي للكلام الملفوظ، مع التوقّف عند كلّ خطأ وتفكيك أسباب الخطأ وتصحيحه ثم التكرار. إن الخطأ في ثقافتنا العربية لا يزال منبوذا، ويخافه الصغير والكبير، بسبب التنشئة الخاطئة التي التي تجعل من كل خطأ إثما. فالخطأ ينبغي أن نوظفه توظيفا ذكيا لأنه فرصتنا للوصول إلى الصحيح السليم المستجاد. وهذا يتطلب دربة على تغيير عقلياتنا وأفكارنا التي تشرّبناها كالإسفنجة في البيئات الثقافية التي تعاني من إخلالات مركّبة.
إنتاج اللغة وعدم الخوف من الخطأ، فالخوف من الخطأ أحد أسباب الإخفاق المتكرر. كما يجدر التخلي عن المثالية ورهاب الإتقان. كل البشر يخطئون في اللغة. وأنصح بكتابة اللغة أو قراءتها أو الخطاب بها وتسجيل ذلك ومراجعته للوقوف على الأخطاء وتصويبها بالتدرج. وإنتاج اللغة هو السبيل الأيسر من أجل فهم ضبط الكلمات وطريقة نسج المعاني والتعبير عن المكنون النفسيّ، وسيساهم ذلك بلا شك في فهم ضبط الكلمات من دون حاجة للتشكيل.
تجريد الكلمات من #التشكيل من أجل قراءتها: عن طريق تعلّم قواعد التجريد (وهي حوالي 15 قاعدة ضبطها إطار #المتمم المرجعي لتعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها). من ذلك مثلا: جميع حروف العطف تكون بفتحة. فلا لزوم لوضع فتحة على حرف العطف. ومن ذلك أيضا: الكلمة التي فيها تاء مربوطة يكون قبل التاء المربوطة فتحة، فلا حاجة لضبطها. وهكذا.
والضبط بالتشكيل ما كان موجودا زمن #القرآن الكريم وأضافه العلماء بعد ذلك. والتشكيل بالحركات تلتقطه العين وترسم له صورة في الذاكرة البعيدة، دون معرفة سبب منطقي يوجب الحركة الأخيرة للكلمة المعربة. وبدل ذلك، تعلّم الميزان الصرفي وقواعده، فهنالك كلمات مركبة بطريقة منطقية في اللغة العربية، ومثاله : وزن (فِعالة) فهو وزن يستخدم للحرف والمهن بشكل عام. ووزن (فُعالة)، وهو وزن خاص بالبقايا مثل نُخالة، حُثالة، وهكذا ! فالصيغ الصرفية ودلالاتها أسرع لذهن الإنسان لأنّ أذهاننا تحتاج دوما (معالم وعلامات للتخزين في الذاكرة البعيدة). وطالما لم تفهم ذاكرتنا الرابط المنطقي للكلمات، فإنّها لا تخزّنها بشكل ذكيّ، بل بشكل تلقينيّ لا يطول استذكاره. منا توجد قواعد منطقية جدا في لساننا العربي، علينا معرفتها، وهي قواعد الضبط بالتشكيل : ومثال ذلك : لا يكون قبل التاء المربوطة إلا فتحة. مثل : فتحةٌ، فقبل التاء المربوطة دوما يكون حرف مفتوح. فحين يتعلم ذهننا هذه القاعدة، انتهى ! سيطبّقها ولا حاجة للضبط أبدا !
استخدام #الفصحى في التدريس: فعلى المدرسين التزام الفصحى في مخاطبتهم لتلاميذهم، والكتابة بها على مواقع التواصل. ما معنى أن يعلم المعلم تلاميذه لغة هو لا يلتزم بكتابتها في صفحته الاجتماعية؟ هذا معناه: حين يرى المتعلم معلمه يفعل ذلك، يفهم بأن اللغة التي يحاسب عليها في الامتحانات لا يلتزم بها معلمه. فيستبطن شعورا بالانفصام اللغوي. كما على المعلمين التخاطب بفصيح الكلام ومليح التراكيب في الفصل، وتجنّب الكلام باللّهجات المحلّية ما أمكن، فهي تترك أثرا لغويا سلبيا على انتقال اللسان من المعلمين إلى المتعلمين. والأصل أنّ جميع الأساتذة والمدرّسين لا يستخدمون في التّعليم إلا اللّسان الفصيح المشترك.
استخدام الفصحى في وسائل التواصل: وسائل التواصل اليوم لها تأثير كبير جدا على #جودة أو رداءة اللسان. وبقد الاجتهاد في قراءة ونشر الجودة اللسانية عبر النصوص السليمة مبنى ومعنى، بقدر زيادة فرص النهوض باللغة العربية. اللهجات المحلية هي جزء من اللسان، واستخدامها يبقى محليا شفهيا فقط دون نشر الكتابة إلا للمنتجات الشعرية والقصصية ذات الفائدة الأدبية، أما مواقع التواصل فهي تصل إلى ملايين ومليارات من سكان الأرض، فلا نخاطب العالم إلا باللسان الأم السليم من الأخطاء، وتبقى اللهجات شفهية تستخدم في البيئات المحلية المحدودة الانتشار. ونشر اللهجات في مواقع التواصل يزيد في تعميق التفرقة بين الناطقين بلسان مشترك. واللغة مشترك إنساني مثل المرافق والطرقات، ولكل مشترك نظام ومقاييس، وللسان نظام ومقاييس ينبغي احترامها.
#التنشيط الفكري عبر التأمّل الجاد في آي القرآن وصحيح الحديث النبويّ وكلام جهابذة أهل اللسان المبين، شعرا ونثرا، وكيفيّة إعراب أواخر الكلمات في سياقاتها المختلفة، ستكتشفون كنزا منطقيّا رائعاً، أي: أنّ أواخر الكلمات تدلّ على علاقات محدّدة بين الأسماء والأفعال والأدوات! وهذه العلاقات طريفة جدّا، ناهيك عن البلاغة والبيان، وحين يعبر المتأمل عما في صدره من معان، سيسترجع بالتأكيد عددا من العبارات ويعيد استخدامها في سياقات جديدة.
الافتخار والاعتزاز بالعربيّة: العربية يتكلمها مئات الملايين في العالم وهي لغة ملك لمن يتكلمها وليست لغة عرق أو جنس محدد. من تكلم العربية فهو عربي. ولا عبرة أن العربية ظهرت في هذا البلد أو ذاك إلا بقدر احترام هذا البلد أو ذاك لتلك اللغة. ومن نطق بالعربية لم يخرجه ذلك من انتمائه العرقي واللغوي والثقافي، فهي لغة عالمية، وليست لغة جغرافيا محددة. ولنا أن نفتخر بأننا نتكلّم لسانا عريقا، وأن يشعر الناطق بالعربية بالعزّة أنه يتكلم لسانا يربطنا بزمن الآرامية والفينيقية والسريانية والجاهلية كما يربطنا بزمن الصحابة وزمن النبوّة وزمن الشّهامة وزمن السؤدد! فكثير من النّاس في حاجة لإصلاح علاقاته الروحيّة والنفسيّة مع اللّسان الأمّ لأن اللغة ليست وسيلة تواصل كما يشاع، بل اللغة الناطق الرسمي عن العقل، واللّسان هو ترجمان الكيان، وجوهر ولبّ الإنسان، وحقيقة الوجود والوجدان، وبنية التّفكير والتذكّر والنّسيان، وليس في هذا الوجود أعجب ولا أغرب ولا أطرف من اللّسان: فمن أحرف معدودة، توارثت البشريّة العلوم والمعارف والمشاعر والملاحم والدّيانات والثّقافات والمنجزات! ولو كان بعد خلق الإنسان من معجزة، لقلت إن اللسان معجزة انضافت لمعجزة خلق الإنسان!
إعادة النظر في كيفية #تدريس العربية، للناطقين بها وللناطقين بغيرها من الألسن: ومن مسؤولية مدرّسي اللّسان العربيّ – حيثما كتب الله لهم أن يكونوا – أن يعيدوا النّظر جملة وتفصيلا في كيفيّة تدريس اللّسان العربيّ، وأن يراجعوا القناعات القديمة التي لم تعد تناسب العصر والمستقبل المأمول، وأن يجدّدوا طرقهم وأساليبهم ومداخل التّعليم في فصولهم وأن يجتهدوا خارج ما تفرضه الأطر الرّتيبة والكسل المعرفيّ والثقافات المحلّية الموغلة في الانغلاق، وأن ينطلقوا انطلاقة جديدة مغايرة، وأن يتعاونوا بينهم من أجل النّهوض بتعليم اللّسان المبين وفق معايير العالم الحديث، عالم الإبداع والإمتاع، عالم الحرّية بلا انبتات، وعالم الكونيّة التي تحترم الواقع المحلّي، وعالم النّقد الذي ينتهي بالبناء والتجديد والتّرميم.
أخيرا، العربية هي اللسان الأمّ. والإنسان يحبّ أمّه ولو كانت قبيحة المنظر، فكيف بالعربية لا نحبّها وهي اللسان الأم المتربّع على سدة اللغات الجميلة المتألقة، وبها كتب جزء كبير من تراث الإنسانية، وهي اللغة التي يتوقع العلماء بقاءها ضمن عدد محدود من اللغات في العالم؟
أرجو أن يستفيد القراء والمهتمون من هذه المقترحات والشكر موصول لهذا الشاب العربي الذي طرح السؤال، لأنّه حفّز لكتابة هذا النص، وسؤاله يعبّر عن اتجاه جديد بدأ في التشكل خلال السّنوات الأخيرة، في شكل صحوة لغوية ثقافية محمودة، بعد أن عرف عديد الشباب معنى أن يكونوا أصحاب لسان ورسالة. وأرجو أن تكون بداية #وعي_لساني عربيّ جديد.
ولله وليّ التوفيق.
بقلم | بشير العبيدي آخر تحديث 04-2023 م | محرم 1443 هـ